عقارب الساعة تقارب الثالثة... أقبع في الميكروباص عائدا من الكلية الفيبساوية...
سابحا بخيالي في بحر من الذكريات، محاولا -دون جدوى- استجماع أناسي المتلاحقة من فرط سرعة الأحداث والمشاهد المتتابعة علي مسرح الحياة في الأمس القريب...
تتوالي الصور... تتداعى المعاني... تتساقط العَبرة... تظهر العِبرة... وتتتجلى الحقيقة...
تتابع في ذهني المشاهد من الماضي غير البعيد... حادثة الميكروباص، زواج أختي سمية، مرض أمي، سفر أختي، اعتقال أبي... اعتقالات الإخوان، المحاكمات السعكرية، الحكم ضد إبراهيم عيسى ورفاقه، مظاهرات العطش، اعتقالات أخرى، مظاهرات العمال...
علي شطآن الأمل كنت أسير، متأملا في ذاك الفضاء السرمدي اللانهائي، وقد بدا في لحظة عبثية سوادا بلا معني تتلألأ وسطه نجوم، أبحث عن رابط يجمع تلك الأحداث، عَلِّي أجد ما يوضح الصورة فيمسح ما علاها من دخان، ويزيل ما علق بها من دماء، وما اعتلاها من عرق، وما شابها من أرق... وضوح يعيد للعقل اتزانه وجِنانه، وللروح حلاوتها وسموها، وللبدن رونقه وبهاءه... وضوح يسمح للصورة الحقيقية أن تظهر وسط ركام المشهد المزدحم.
تتقاذفني الظنون، وتساورني الهموم، وتطارحني الأفكار... وأنا في حالة عظيمة من الشرود والتأمل والبحث والتنقيب عن جديد يقلب الصفحة، أو يغير القناة، ومبـ...
اقتحم ذلك الصوت المزعج "خلوتي"، وسط ميدان السيدة عائشة...
يظهر التالي علي الشاشة البرتقالية: "أمي/ مامي/ أماه"...
سلام عليكم
- مبروك يا حبيبي
الله يبارك فيك!
- أنا في المحكمة، أبي والناس اللي معاه كلهم خدوا إفراج.
مبروك، الحمد لله، قشطة عليكي.
- إن شاء يوم السبت يكونوا كلهم في بيوتهم.
الحمد لله، طب وإيه أخبار الناس بتوع العسكرية.
- يوم الثلاثاء إن شاء الله.
يا مسهل، يخرجوا كلهم إن شاء الله.
- إن شاء الله يا حبيبي، مبروك.
الله يبارك فيكي.
- يللا تيجي بالسلامة.
- - - - -
يعني بالعربي كده عشان ما ندخلش في حوارات...
أبويا حسام بن الحج أبو حسام -اللي هو الحج بكر- خرج يا رجالة، بالإنجليزي طبعا!
فرحان
طبيعي إني أكون فرحان...
فرحان إن الحمد لله الموضوع القُلة ده هيخلص علي خير...
فرحان إني أشوف أبويا حر تاني، بيكمل مشوار حياته المنور، هو وكل الناس اللي معاه...
فرحان إننا إن شاء الله عدينا الأزمة دي علي خير...
فرحان كتير!
بس
في مشكلة صغيرة!
المشكلة خالص مش إن نيابة أمن سلطة مصر النزيهة ممكن تطعن علي هذا الحكم، أو حتى تاخدها من قاصرها وتعيد اعتقالهم مرة أخرى...
المشكلة خالص مش صغيرة...
المشكلة مش أب دخل السجن، وحلها مش مجرد إنه يخرج... المشكلة آلاف زي الأب ده، مستنيين يخرجوا لنور الحياة مية أخرى... المصيبة 40 من أشرف وأرجل رجالة في البلد بيتحاكموا عسكريا في الدرا، فلوسهم بتتنهب، أهاليهم بيتبهدلوا، عمرهم بيضيع، والأهم بلدهم بتتنهب قدامهم من غير ما يقدروا يعملوا حاجة... المأساة بلد ما فاضلش فيها إنسان، الفرد في بلادنا مواطن أو سلطان ليس لدينا إنسان علي رأي أونكل مطر، وفي رواية زويولوجية أخرى: الدابة في زريبتنا بهيمة أو حمار، ليس لدينا حيوان!
مش قادر
الحقيقة، مش قادر أفرح، أهبل اللي ما يكونش فرحان في موقف زي ده، بس يا خسارة فرحة ما تمت...
مش قادر أفرح والمحاكمات السعكرية لسا شغاله، وعلي ودنه، وعلي عينك يا تاجر...
مش قادر أفرح بإن العيد جه، وفيه آلاف الناس اللي زيي، أهاليهم مرميين في السجن، بقالهم سنين وشهور...
مش قادر أفرح وأنا شايف كل شمعة بتطفي قدام عينينا، لا كمان جوا عينينا، ما عادشي فيه شموع أو دموع!
مش قادر أفرح وأنا شايف بلدي بتتقطع قدامي ومحدش قادر يعمل حاجة...
مش قادر أفرح وفيه "أشياء" في البلد دي مش حاسة إنها بشر من لحم ودم، وليها حقوق وليها آدمية...
مش قادر أفرح والناس لسا نايمة؛ إما من كتر التعب من الشغلانات اللي شغالينها عشان يأكلوا عيالهم، أو من كتر السهر في القهاوي قدام ميلودي ومزيكا...
مش قادر أفرح وديننا مش موجود غير شعارات في حياتنا، الدين أوله رحمة وأوسطه عدل وآخره عتق، تحرير للإنسان، من كل شيء...
مش قادر أفرح وبلدنا بتتنهب قدام عينينا، وإحنا ساكيتن...
مش قادر أفرح والناس لسا مش حاسة إنها تقدر، وإن صوتها ممكن يتسمع لو حاولت... لكن
مش قادر أفرح وجوا صدري بركان مولع، وحريقة قايدة او كانت فولكانو حقيقي كانت ولعت الأرض بالمريخ في يوم واحد...
مش قادر أفرح...
مش قادر...
مش قادر أكمل!