بلاد الواء الواء
نعم، لا تندهش ولا تستغرب.. فإذا كنت قادرًا علي تحمل كدمة أو رضة في الجبهة أو أن يراك ابنك فيصرخ لأمه: إلحقي يا ماما بابا اتجنن!!.. فأكمل المقال، أما لو أنك مطمئن للمقاول الذي بني بيتكم أو أنك تخاف من أثر ضربة دماغك في الحائط فلا داعي لإكمال المقال ويا سيدي المقالات كتير مجتش علي هذا تحديداً!!
ما رأيك في مياه الشرب التي تشربها أو التي بالأحري لا تشربها؟
بعضنا الغني والمستور يشتري مياهًا معدنية.
وبعضنا الأقل سترًا والأقصر يدًا يشتري مياهًا بالجراكن، غير معدنية لكنها ليست من الحنفية.
وأكثرنا يشرب مياه الشرب المخلوطة بالمجاري والسم الهاري الذي يختلط بالمياه القادمة من شبكات المياه ومواسيرها في مناطق مصر!
هل تريد أرقامًا ونسبًا مئوية وأسماء الكائنات السرطانية والسمية الموجودة في المياه التي كشفتها عشرات الدراسات؟
بذمتك محتاج لهذه التفاصيل، يمكن أن أقدمها لك كما كتبتها أكثر من مرة في هذا المكان نفسه لكن هناك ما هو أسهل وأريح لك وأكثر إقناعًا من الكلام التقيل والمصطلحات الرذلة، مد رجليك حتي أقرب حوض في الشقة واملأ كوبًا فارغًا بالمياه وتأمل سواده وترابه وفتافيته لتعرف عما أقول وعما تشرب!
ثم ما رأيك في مسألة المجاري في مصر؟
هل أنت راضٍ عن مستواها ومتانتها وكفاءتها أم أنك من هؤلاء الذين يتمتع نظرهم كل يوم بمجاري ضاربة في الشارع أو علي ناصية شارع قريب أو حتي تشاهدها في مشوار لك في آخر فيصل أو عند دار السلام أو في سكتك لمدينة نصر أو في أي قرية ومدينة صغيرة في مصر؟ أم أن حظك العثر جعلك من سكان منطقة انفجرت فيها ماسورة «مياه مجاري» من بين 97 ألف ماسورة انفجرت خلال العام قبل الماضي مثلاً في القاهرة وحدها؟
تخيل بعد هذا كله تأتي الحكومة ـ الذكية بنت الذكية ـ وتخفض من موازنة هذا العام الإنفاق علي مياه الشرب والصرف الصحي!
أوضاع المياه وأحوال الصرف الصحي التي لا تسر عدوًا (لأ بل تسر عدوًا طبعًا) ولا حبيبًا وتنتهي بنا إلي فجائع يومية بدلاً من أن تزيد الحكومة الإنفاق عليها لإنقاذ مصر من سم المياه وأمراضها التي تصيب بالسرطان والفشل الكلوي إذا بها تخفض الميزانية، بدلاً من إنقاذ المصريين من الغرق تحت مياه المجاري والحياة في الطفح إذا بها تنتقص من ميزانية الصرف الصحي!
هذا ما جري من حكومة رجال الأعمال ومليارديرات مصر الجديدة الذين قرروا تخفيض الاعتمادات المخصصة لقطاع مياه الشرب والصرف الصحي من 14 مليار جنيه عام 2008/2009 إلي 4 مليارات في العام المالي المقبل 2009/2010!
ماذا يعني هذا التخفيض الهائل؟
انحياز كامل ومطلق للأغنياء ومتطلباتهم واحتياجاتهم في مواجهة الفقراء ومحدودي الدخل!
كسبت مياه ري ملاعب الجولف ماء شرب الغلابة!
شلة بكوات قاعدة معاها قلم وقدامها الورق، شيل ده من ده وحط ده فوق ده، هذا القلم من يحركه ومن يقوده ومن يستطيع مواجهته؟
مجموعة رجال الأعمال في الحكم والدولة وكذلك رجال الأعمال في البرلمان والحزب الوطني ورجال الأعمال ملاك الفضائيات شبه الحكومية والصحف شبه الخاصة تضمن التواطؤ وتبادل المنافع.
من مياه الشرب والصرف الصحي تعال لتكتشف معي أن هذه الحكومة خفضت مخصصات العلاج علي نفقة الدولة إلي مليار جنيه مقارنة بـ 4.1 مليار جنيه العام الماضي، علي الرغم من وجود عجز مرحل بميزانية العلاج علي نفقة الدولة يقدر بـ 950 مليون جنيه من العام الماضي. هل أدركت معي هذا الحجم الواسع الشاسع من التخفيض؟
قولي بذمتك ودينك في شرع مين اللي بيحصل ده؟
قطعًا هذا مجرد مثال، والأمثلة أضخم وأفظع، لكن هذه خلية من جسد خرب ومنخور.
تمر كل هذه الكوارث عادي خالص ولا كأن حاجة حصلت وإنت متضايق ليه بس ووالله إنت مزودها ومثل هذا الكلام الطيب الذي تسمعه من أبناء وطنك المصكوكين علي ظهورهم والمسلوبة أموالهم وثرواتهم ومستكترين عليهم علاوة تافهة لا تسد رمقًا ولا تكفي ثمن ساندويتش فول كل يوم.
مَنْ يخفض نصيب مياه الشرب والصرف الصحي والذي يسلخ ميزانية العلاج علي نفقة الدولة بهذا العنف والصلف؟، هي طبقة الجولف الحاكمة التي لا تصل لعشرة في المائة من الشعب كما قلت وكتبت وكررت بل ربما نختصرها في خمسين عائلة تتشعب ملكياتها في الوطن لتتملك الوطن ثم تملكه عبر وريث محكوم بأفكار العولمة ومصالح الشلة (أو الشلل)، والمتأمل للمجموعة التي تحكم البلد فعليًا (وريث زائد أمين تنظيم وعدد من رؤساء لجان البرلمان زائد عدد من قيادات أمانة السياسات) يكتشف (رغم أن القصة كما قلت دومًا أيضًا ليست في حاجة إلي اكتشاف بل إلي كشف) أنهم:
1 ـ مليارديرات (ليس فيهم من يملك أقل من مليار جنيه).
2 ـ ينتمون إلي عائلات من الطبقة المتوسطة العالية ساهم الأبناء بنفوذهم السياسي في انتفاخ ثروات العائلات، بحيث إن كفاح الأب عبر سنين عمره لم يجمع له ما جمعه ابنه في صفقة أو اثنتين من تلك المخلوطة بالسياسة.
3 ـ مرتبطون بتوكيلات أجنبية أو شركاء أجانب في أعمالهم وشركاتهم.
4 ـ معظمهم لا يملك في مصر فدادين ومزارع بل في الأغلب يملكون قصوراً وفيللا في الساحل الشمالي أو الجونة وعقارات ومنتجعات ويملكون مثلها في إسبانيا أو إنجلترا أو فرنسا، لكنهم مختلفون كلية عن باشاوات عصر ما قبل الثورة الذين كانوا يملكون مئات وربما آلاف الفدادين الزراعية في مصر أي أنهم يملكون طمي هذا الوطن!
5 ـ أصحاب جنسيات متعددة ويملكون إلي جانب جواز السفر المصري جوازات أخري.
6 ـ أقدم مشتغل بالسياسة فيهم لم يتجاوز من سبع إلي عشر سنوات اشتغالاً أو انشغالاً!
7 ـ طائراتهم الخاصة موجودة وجاهزة للإقلاع من شرم الشيخ والجونة في أي وقت.
لكن كل هذا تعبير عن هوس مجموعة متحكمة بالرأسمالية المتوحشة، كما أنها تؤمن بتخلي الدولة عن مهمة الرعاية والكفالة والضمانة للمواطن كأنه إيمان بعقيدة دينية، ماشي.. لكن هذه الموازنة التي تسحق حقوق الفقراء شهدت أمرين:
الأول: زيادة ميزانية وزارة الداخلية.
الثاني: وجود 22 مليار جنيه مصري فقط لا غير تحت بند مصاريف أخري أو مصاريف غير مذكورة
نعم يا خويا!!
يعني الداخلية وفهمنا إنها هي سر بقاء النظام والحصن الحصين والأمن الأمين لهذا الحكم، دعك من زيادة مهولة لحجم الجرائم وتدافع حوادث القتل المتوحش والسرقات العلنية والخطف والسرقات الجماعية والسرقات بالإكراه واقتحام البيوت وتبادل إطلاق الرصاص في الشوارع والهجوم علي المحاكم، دعك من كل هذا فهذا لا يفرق مع الدولة وأصحابها (لا أقول مسئوليها)، فقد زادت ميزانية الداخلية (لأنها «الجهاز» المدلل عند النظام وأصحابه ولا أقول مسئوليه) لكن ما المصاريف الأخري؟
يختفي في الموازنة العامة لعام 2009 مبلغ وقدره 220654 مليون جنيه (أكثر من 22 مليارًا) هذه الأموال مكتوبة كده في الموازنة التي وافق عليها مجلس الموافقة «قصدي الشعب» تحت بند قطاعات غير مذكورة أو شئون غير مذكورة!
طبعا أنا وإنت واللي مشرفينا في الفرح ممكن يتوقعوا الأخت غير مذكورة رايحة فين ومَنْ سيذكرها؟
هذه مليارات تذهب إلي أيدي مسئولين لا نعرف عنهم ولا عنها شيئًا فيما أنفقت ولمن ولماذا وما ضمانات إنفاقها؟
أليس وارداً أن يتم نهبها وسرقتها، أو أن تروح في إنفاقات بذخ وكلام فارغ؟
أليست هذه أموال الشعب ومن حق اسمه إيه ده الشعب يعرف مصيرها؟
وهكذا كذا ولا في بلاد الواق واق، آه يحصل في بلد الواء الواء بتاعتنا حيث كلنا عيال لا نفهم، بينما هناك حزب واحد يعرف ويفهم ومِنْ ثم لا داعي لأن نفكر أو نعترض أو نتضايق ونغضب ونزعل، طبعًا نضحك، نضحك علي أنفسنا ونترك الماشي ماشي والراكب راكب ودع التاريخ يأخذ مجراه والهرتلة تأخذ مضاداً حيوياً والفساد يعلو ويعلو ويسود ويسوس، والنتيجة أن القمح فيه سوس، يا خبر إسود والتسويس التسويس، مش مهم، أنا معجون مخصوص علشانكم، الميه فيها صرف صحي، مش مهم، ألا يكفيكم أن نشرب من البحر؟!
الغريبة إن الفساد لم يعد المشكلة الجوهرية والعميقة، بل عادية الفساد هو الكارثة، أن نتعود عليه ونعتاده ولا نندهش منه ولا نتمرد ضده ولا نحاربه بل العكس ما يحدث، مصر عاملة زي اللي ضارب اسبراكس في تخشيبة الوطن مخدرة لا فالح فيها ضرب علي الوجه أو علي القفا، ولا نغز بقرن غزال أو جلد بكرباج، ولا متأثرين خالص، محلقين في السقف مع نصف ابتسامة وتغميضة من العين الشمال ولا حاسين بما يجري فينا وبنا، بيقولولك فيه في الموازنة اتنين وعشرين مليار جنيه مصاريف غير مذكورة.. مذكورة دي خالتك!