في طريق الأبدية!
هو الذي أوجد الأشياء وقدرها تقديراً وجعلها تتكلم بألف لسان ولسان.. لولاه لما وجد أي شيء من نفسه، ولولاه لما انتظم أي شيء... بعنايته تحول الكون إلى إنسان، والنظام إلى لسان ولغة. كل شيء يهمس به، وكل شيء ثمل بجماله. إن لم يكن الوجود مرآة له فما فرقه إذن عن حديد صديء؟ وهل يكون الإنسان إنساناً إن لم يذكره ويعرّفه؟ آه أيتها الأرواح المظلمة! وآه أيها الصُمّ عن صراخ القلوب! متى سينتهي لهوكم بالدمى، والى متى ستغمضون عيونكم عن الحق؟
ولأن الإنسان ألفى نفسه موجوداً في عالم تحيط به المادة من حواليه، وجد نفسه يؤمن أول ما يؤمن بما يصل إليه من هذا العالم بوساطة حواسه الخمسة، ثم يقوم بتفسير معاني الأشياء ويكسر القيد الحديدي عن عنقه ليرى الحقيقة الموجودة في قلبه. ولكن هناك من يبقى طوال حياته أسيراً لهذا الطوق الحديدي حول عنقه فلا ينجح في التقدم خطوة واحدة إلى الأمام. لذا كان علينا عندما نتناول الأشياء المحيطة بنا أن نقرأها ككتاب وأن نستمع إليها كنغمة ونشيد. في هذه القراءة والاستماع علينا ألاّ نغفل عن كاتب هذا الكتاب وملحن وقائد أوركسترا هذا النشيد، وإلا فإن الغافلين لا يسمعون أنفاس الحقيقة ونبضها في قلوبهم. ومهما غرقوا في الأدلة المستقاة من دراسة الكون فلن يستطيعوا معرفته، ولن يستطيعوا المثول بين يديه. والأرواح البائسة التي لا تستطيع -ببيانه وبكتابه تعالى- رفع الأستار عن عيونها وآذانها لا تستطيع الارتفاع لمعرفة الحقيقة في وجدانها، أي لن تستطيع معرفته... معرفة كاتب كتاب الكون.
يا من وُجدنا بوجوده وتنورنا بنوره! يا صاحب الرحمة اللانهائية الذي أنقذنا برحمته من ظلمات النفس الأمارة! لو لم يكن نورك الأزلي الذي تنورت به الكائنات لما استطعنا رؤية أي شيء على حقيقته، ولما استطعنا إصدار أي حكم صائب. وُجدنا جميعاً بعنايتك أنت، فلتكن عنايتك معنا... تعلمنا الحقيقة من علمك، ولو لم تتلطف بإلهام أرواحنا عن وجودك كيف كنا نعرفك؟ ومن أين كنا ندرك وجودك؟ وكيف كنا نصل إلى الاطمئنان؟
جعلت كل موجود لساناً، ومن بين هذه الألسنة جعلت الإنسان بلبلاً، فلا عدمنا من يعرّفك! أجل نثرت الآيات التي تتحدث عنك في كل أرجاء الكون، وجعلتنا نقرأ هذه الآيات، وأَسْمَعْتَ قُلوبنا صَوْتَ الحقيقة، فبدأنا نحدس بفضل هذا العلاقة بين الموجد والموجود... بين الخالق والمخلوق... وبشوق وفوران هذه الحقيقة في قلوبنا بدأنا نرتفع نحوك، ونتخلص من ظلام النفس ومن دوامات الرغبات الجسدية ونصان منها.
عندما عرفناك وصلنا إلى لب المعرفة وأدركنا سر الجمال الذي نقشته في روح الأشياء. لذا فإن كنا نحدس الحكم الموجودة في سيماء كل وجود، ونسمع في كل صوت في الطبيعة موسيقى ساحرة ونغمات حلوة فكل هذا بفضلك أنت... نثرت اللوحات الرائعة للجمال الموجود في الكون، أي في كتابك المذهل، فأثرت قلوبنا بالوجد. وفككت عقال ألسنتنا أمام هذا الجمال الذي أنت صاحبه، فسالت منها روائع البيان. ولو تأملنا جمال كتاب الطبيعة الذي لا مثيل له مئات المرات، واستمعنا إلى النغمات التي تهمس بوجودك مرات ومرات، وعرضنا ذلك بوجد على المشاهدين المشتاقين إليك، لما ارتوينا من هذا العالم النوراني، وبقينا في شوق لسماعك والإنصات إليك، وبقينا في لهفة وفي وجد إليك وحدك.
يا سلطان الوجود الذي جعل قلوبنا عارفة بصور جماله الخفي! كم ألف مرة حاولوا أن يعرّفوك من الأمس حتى اليوم، وكم كأسا من كؤوس كوثر حبك قدموا لعطشى حبك! ولكن أيمكن لصاحب هذا الصوت الخافت، ولصاحب نغمة هذه الربابة المكسورة في هذه اليد العاجزة أن يقول شيئاً بجانب النغمات السحرية لتلك الأرواح المشعة نوراً من سالكي الطريق الموصل إليك؟ ولكننا نلوذ بحمى لطفك ومسامحتك وبكرمك الذي أعطى للجميع حرية الكلام والحديث. لذا أقبلنا على بابك الواقف أمامه أمراء البيان والبلاغة ونحن نخفي من الحياء وجوهنا بنقاب ونقول: "هذه هي بضاعتنا المتواضعة من النغم..." نقول هذا ونطلب العفو والصفح.
ومع هذا، فإن الكلام الحقيقي في هذا الموضوع يعود أيضاً إليهم. نحن نعترف بهذا مرة أخرى، فبجانب بيانهم الذي يشبه الشلال الهادر نحاول نحن أيضا الحديث عنك وعن قدرتك وحكمتك اللانهائية.
لقد استمعنا حتى الآن إلى بعض المرشدين إليك، وأنصتنا إلى أصواتهم، وحاولنا فهم إشاراتهم. ومن خلال النوافذ التي انفتحت في قلوبنا وبالإشارات المختلفة الواصلة إلينا من هؤلاء المرشدين نحنّ إلى أن نراك في كل شيء، ونسأل عنك كلَّ شيء، ونرتفع إليك من طرق مختلفة.
نوّر أعيننا وبصائرنا بنورك واشف صدورنا. وَهَبْ السعادة الأبدية لنا... لعبيدك الذين لا يريدون العتق من العبودية... وعرفهم بنفسك أكثر لكي يدلوا الحائرين إلى طريقك وينجدوهم. فالعفو يليق بك... والإرشاد إلى طريقك يليق بهم...