[ إضاءات ]

"من علمني حرفا... صرت به حرا" أستاذي سيف الدين .....| | | | |..... "هناك فرق بين أن تكون عالما، وأن تكون إنسانا" كولن .....| | | | |..... "إن الدعاة اليوم لا يفتقرون إلي الإخلاص... وإنما في كثير من الأحيان إلي الحكمة" أستاذتي هبة .....| | | | |..... "الاجتهاد مبدأ الحركة في الإسلام" محمد إقبال .....| | | | |..... "الطاقة الإبداعية بحد ذاتها مطلب شرعي ومقصد إيماني‏" فالإبداع "صنو الاجتهاد، ورديف له، من الصعب أن ينفك أي منهما عن الآخر" طه جابر العلواني .....| | | | |..... "ولا تزال الدنيا عامرة وديار المسلمين في سلام ما أخبتت النفوس وهبطت ساجدة تردد: "رب زدني علما" محمد أحمد الراشد .....| | | | |..... السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس به أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك: لا سياسة إلا ما وافق الشرع: أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة" الإمام ابن عقيل الحنبلي .....| | | | |..... "طلب الحرية مقدم علي تطبيق الشريعة... تقديم ترتيب، لا تقديم تفضيل" فهمي هويدي .....| | | | |..... "الإنسان المعاصر إنسان ذو بعد واحد، فاقد الهوية، وصاحب نزعة استهلاكية، وقليل الحساسية تجاه الغير، ويعاني عزلة وضياعا، وهو أسير المرحلة الراهنة، والسرعة الفائقة، والوقائع السريعة الكفيلة بأن تُنسيه ما قبلها، وتتركه يتحفّز لما بعدها" مدرسة فرانكفورت .....| | | | |.....

الثلاثاء، نوفمبر ٠٤، ٢٠٠٨

فرس الرهان... العبقري!




جلست أفكر قليلا في حالنا، وسألت نفسي سؤالا... فيمن أري الأمل القادم؟! خلصت إلي إجابتي... بقناعة تامة.. إنهم هم ولا شك..!

---
كنت مع عبد الرحمن منصور، وأحب النقاش معه كثيرا، فسألته نفس السؤال الذي كان يدور في ذهني... علي من تراهن لصنع مستقبل أفضل؟! فكانت إجابته، كما كانت إجابتي، وبقناعة تامة أيضا.. إنهم هم ولا شك..!
---
أعطتني سنوات الكلية فرصة للمشاركة في بعض الأنشطة الطلابية، وفيها تعلمت الكثير، ولكن فوق كل شيء، اكتسبت هذا الأمل الذي يحيا بداخلي، اكتسبت تلك القناعة التي أؤمن بها، إنهم هم الأمل.. إنهم هم ... فرس الرهان لتغيير واقعنا إلي الأفضل.. إنهم هم... وليس غيرهم...
إنهم الشباب!
رأيت الشباب قادرا علي فهم أساتذته و الاستفادة من علمهم، و رأيت الشباب قادرا علي الاستفادة من خبرات سابقة والإضافة الإبداعية إليها، وأهم شيء... رأيت الشباب قادرا علي الحلم.. والبناء!

ذات يوم سألتني أستاذتي إذا كنت قرأت رواية "الأمير الصغير"، وأجبت بالنفي، قالت "إذا كان هناك كتابا واحدا سأنصحك بقرائته في حياتك فهذا هو" ! تعجبت...

حصلت عليه وقرأت القصة، لطيفة جدا... ولكن لماذا قالت هذا يا تري؟! ممممم.. ظللت أفكر في المعاني التي تناولتها الرواية.. ووصلت لكثير منها، ولكن ما استوقفني هي أنها رواية تدرس لطلاب المرحلة الإعدادية في فرنسا وفي دول أخري!!
قابلت أستاذتي في اليوم التالي، وسألتني عن المعني الذي استوقفني في الرواية.. لا أذكر إجابتي، ولكني أذكر ابتسامتها المشرقة، وصمتها قليلا ثم كلامها...
"أنا عجبتني قوي فكرة استغراب الأمير الصغير من عالم الكبار، واعتباره إنه الإنسان يولد عبقريا، ولكنه يفقد عبقريته كلما تقدم في السن، فكرة إنه الصغيرين هما العباقرة... الفكرة دي عجبتني قوي"!!! تركتها يومها وأنا أفكر... ثم قلت... وأنا كمان.. الفكرة دي عجبتني قوي!!

في فعالية افتتاح المنتدي الثقافي للشباب هذا العام، كان الحفل يشهد احتفاءا بذاكرة المسيري، عرض فيلم قصير من إعداد فريق عمل المنتدي عن المسيري، وكان هناك تعقيب عليه من زوجة الدكتور المسيري رحمه الله، وابنته الدكتورة هبة رؤوف – كما تحب أن تقول هي – وكلاهما اتفق في وصف أستاذنا المسيري بصفتين.. الأولي أنه كانت لديه روح الطفل الصغير المشاغب، و الثانية تشجيعه للشباب الصغير الذي كان يري دائما في أفكارهم إبداعا يدهشه حتي وإن لم تكن أفكارهم بدرجة من العبقرية تستحق أن يلقي لها من هو في مكانته بالا.. ولكنه كان مع ذلك.. يستمع لهم.. مندهشا!! فكرت في الأمر... وقررت الدهشة!

تم تعيين سناء – التي هي في مقام أختي – معيدة في كليتنا الموقرة :) حضرت السكشن الذي تدرسه هي لطلاب الفرقة الثالثة، ثم تناقشت معها في بعض الأفكار، وقبل أن أتركها تذكرت رواية الأمير الصغير، فشعرت أني أحسدها كثيرا علي مكانها، فهي ستستطيع أن تبقي علي اتصال دائم بالعباقرة الصغار، وسيمثل لها ذلك بلا شك مخزنا للإبداع لا ينتهي، أخبرتها بذلك... وتركتها وما زلت أشعر بغيرة شديدة... سوف تتعلم الكثير من هؤلاء العباقرة!!


بالأمس، كانت ندوة بعنوان المسيري الإنسان، كان مما بدأ به الدكتور رفعت العوضي كلمته دعاء أن يعوض الله أمتنا عن فقدان المسيري، تذكرت حديث نزع العلم من الأمة بقبض العلماء...! بدأت أحزن.. ثم فكرت قليلا... ألا يمكن أن تكون هناك حكمة وراء هذا؟؟؟ ألا يمكن أن يكون وفاة من هو مثل المسيري رحمه الله ليترك المجال مفتوحا أمام تلامذته ليقدموا إبداعاتهم و إسهاماتهم؟ ألا يمكن قراءة وفاة أستاذ، علي أنها ميلاد أساتذة... كانوا هم تلاميذه، وميلاد تلامذة جدد... لهؤلاء الأساتذة.. ارتحت كثيرا لهذه الفكرة.. وسعدت بها... نعم... هكذا تكون قراءة الموقف... نعم... لقد ولد أساتذة صغار... وتلاميذ صغار... ولأنهم أصغر... فهم يعطونني الأمل... كما كانوا يعطونه لأستاذهم رحمه الله... الأمل يأتي مع دهشة الأطفال.. رحمك الله يا مسيري!

لأجل هذا وأكثر، أري الأمل في الشباب، أري المخرج من المآزق الحالية في الاعتماد علي الشباب، أري المستقبل مضيئا.. ما دام يصنعه الشباب!!

فرجاءاً... أيها الكبار، آمنوا بالشباب... لتروا فيهم هذا الأمل... لتروا فيهم هذه العبقرية... لتروا فيهم هذا المستقبل المضيء.

ورجاءاً، أيها الشباب... آمنوا بأنفسكم... وأعطوا أنفسكم المكانة التي تستحقونها... في صفحات التاريخ!

الاثنين، نوفمبر ٠٣، ٢٠٠٨

أوجه التقصير والقصور في التعامل مع فكر المسيري





يشاع في الأدبيات العربية والإسلامية أن المفكر الإنساني عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، من المتخصصين في الصهيونية ومتعلقاتها، فلا يكاد يذكر اسم المسيري حتى ينصرف الذهن مباشرة إلى موضوعات من قَبيل اليهود واليهودية والصهيونية.

وإذا أردنا أن نوظف بعض المباحث اللغوية واللسانية لقلنا إن المسيري هو الدال، والصهيوينية هو المدلول. المسيري هو الحقيقة والصهيونية هي المجاز.

بل إن السامع لكلمة "المسيري" تضعه بشكل مباشر على أرض فلسطين التي تشهد صراعا وجوديا مع الكيان الصهيوني، وبهذا نكون قد تعاملنا مع "المسيري" وكأنه "شيء" بسيط يُختزلُ في بعض الوقائع -على أهميتها- أو في بعض الاتجاهات -على خطورتها-، وهذا شأن اللغة الرياضية التي تغيب فيها المسافة بين الدال والمدلول، أو تكون قصيرة، من السهل العبور فيها من الدال إلى المدلول أو من المدلول إلى الدال.

وإذا كان المسيري ما فتئ يحذر من خطورة النماذج الاختزالية التي تختزل الإنسان في بُعد واحد أو بعض الأبعاد أثناء التعامل مع الظواهر والقضايا المركبة، إلا أن "لعنة" الذهنية الاختزالية قد طاردته، وليس فقط موضوعاته وقضاياه.

ولعل سبب هذه النظرة الاختزالية آيلٌ إلى كون المسيري ألّف موسوعة لم يسبقه إليها أحد في عالمنا العربي والإسلامي، فالموسوعة إنجاز معرفي علمي ضخم.

لكن المشكلة أن الجهد الأكبر الذي يبذله رواد تلك النظرة الاختزالية منصرفٌ بالأساس إلى ما جاء في الموسوعة من معلومات. وليس منصرفاً إلى الإطار النظري الفكري الذي ينتظم وتدور حوله تلكم المعلومات.

والمسيري صرّح في أكثر من مناسبة أنه في الموسوعة درس الصهيونية كحالة، وطبق عليها منهجه الفكري والمعرفي. وهذا المنهج "صالح" للتطبيق على موضوعات وظواهر أخرى.

وفي رأينا إن كان لا بد من تحديد تخصص معين للمسيري، فإننا سنجد أقرب تخصص إليه هو دراسة النماذج المعرفية، ونقد الفكر الغربي والحضارة الغربية.

ومَرَّةً قُلتُ لبعض الذين يعتقدون أن المسيري مرجعٌ في فهم الصهيونية وليس مرجعا في نقد الحضارة الغربية: كيف يُعقل أن يكون المسيري الذي يعتبر الصهيونية (و"إسرائيل") امتدادا للحضارة الغربية أو بالتدقيق امتدادا للتشكيل الاستعماري الغربي؟ كيف يمكن لرجل هذا مذهبه في التفكير والمقاربة، أن يكون مُلمًّا بالصهيونية وإسرائيل دون أن يكون على درجة كبيرة من الفقه والفهم فيما يتعلق بالحضارة الغربية؟

ونزعم أن الخطاب الإسلامي والعربي المعاصر يعتريه مُركبٌ من القصور والتقصير بخصوص العلاقة الفكرية التي يربطها بفكر المسيري. ولهذا المركب من التقصير تجليات سنقف عند بعضها فقط.


1- غياب الاستثمار العملي لأطروحاته بخصوص الصهيونية
هناك تقصير في تحويل الأعمال التي أنجزها المسيري بخصوص الصهيونية، خاصة موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية"، إلى إستراتيجيات وسياسات وخطط عمل.

وفي هذا الصدد، أستبق التحليل والنقاش، لأتساءل: كم من زعيم عربي وإسلامي قرأ بتأنٍ موسوعة المسيري، ورتب نظرته لإسرائيل بناء على نظرة المسيري الأكاديمية؟

إن فهما جيداً لهذا الكيان، وإدارةً ناجحةً لهذا الصراع يتطلب التسلح برؤية دقيقة وعميقة. والبحوث الأكاديمية، التي على ضوئها تتشكل الرؤى والتصورات، ليست إضافات زخرفية ومتحفية، بل لا بد من النظر في المقتضيات العملية المترتبة عن تلك الرؤى والتصورات.

وقد تكون رؤية المفكر أدق من رؤية السياسي، فالكثير من التفاصيل الجزئية لا يمكن أن تفهم على حقيقتها إلا إذا تمت إحالتها على الخيط الناظم الذي تنتظم حوله تلك التفاصيل والجزئيات.

ونعتقد أن المسيري، رحمه الله، قد وضع مجموعة من "القواعد النظرية" سواء لفهم "إسرائيل" (الفهم النظري المعرفي) أو من أجل بناء تصور لكيفية خوض المواجهة مع هذا الكيان (التصور العملي الكُلِّي).

فالمسيري، في هذا الشق الثاني، وضع خطوطا عملية عريضة للمواجهة (أو الحوار الشامل، وضمنه الحوار المسلح. كما هو مصطلح المسيري).

لكن الناظر في الكيفية التي يشتغل بها العقل السياسي العربي والمسلم لمواجهة إسرائيل سيكتشف أن تلك "القواعد النظرية" ليست لها مصاديق على أرض الواقع.

وسنورد بشكل سريع ثلاث قواعد نظرية نعتقد أنها بمثابة قواعد هادية للانخراط في حوار (بمفهومه الشامل) ناجح مع إسرائيل ينتصر للقيمة التي هي قطب الرحى في فكر المسيري، أقصدُ "قيمة العدل".

القاعدة الأولى: "إسرائيل امتداد للتشكيل الاستعماري الغربي"، أي أنه لفهم هذا الكيان لا بد من استيعاب ثوابت ومُطلقات الحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة.

القاعدة الثانية: "إسرائيل ليست دولة دينية". فكلما كان تشخيصنا دقيقا لطبيعة إسرائيل، من حيث هويتها الثقافية والفكرية، إلا وكان بناء خيارات وعناصر المواجهة متسما بقدر كبير من الاتساق والمتانة.

القاعدة الثالثة: "انهيار إسرائيل لن يكون من الداخل إنما من الخارج".


لكن الذي نلاحظه في صفوف الكثير من القطاعات العربية والإسلامية هو سيادة فكرة "الدولة الإسرائيلية الدينية"، دون أن تستند تلك الفكرة وهذا التوجه إلى دراسات تتسم بقدر عالٍ من الصدقية والمشروعية النظرية.

وغالبا ما يتم التعامل مع إسرائيل على أساس أننا نعرفها، ونعرفها لأن الله تعالى قد قَصَّ علينا أحوال اليهود، ولأن الصراع معهم صراعٌ أزلي تُصدقه النصوص وتدعمه الوقائع, وبالتالي فإن المسألة بالنسبة لهذا النوع من التفكير قد حسمها النص المقدس، ولا داعي للاجتهاد بخصوصها.

لكن المسيري كما فعل في موسوعته رجَّح "منهج الفهم" على "منهج التغيير". فلم ينظر إلى واقع الصراع مع الكيان الصهيوني من أجل تغييره فحسب، إنما من أجل فهمه أولا.

أما بخصوص القاعدة الثالثة، فإن مفهومها هو أنه لا يمكن الفصل بين مواجهة "إسرائيل" ومواجهة "المصدر" الذي يمد "إسرائيل" بعناصر ومقومات البقاء. لكن ما نلحظه هو فصل تعسفي لـ"المواجهتين" في حالة يستحيل معها الفصل والبتر.

سقنا هذه الأمثلة فقط لتبيان كيف أن رجل السياسة ( Le politique) لم يستفد بما فيه الكفاية من رجل العلم (Le savant).


2- التقصير في الاستفادة المؤسسية من اجتهاداته المعرفية
يتمثل التقصير الثاني في "عزوف" العقل الإسلامي المعاصر -دون أن نعمم- عن "واجب" الاسترشاد بما قدمه المسيري من اجتهادات نظرية ومعرفية، غير تلك التي دونها في موسوعته المتميزة.

وأنا هنا لا أتحدث عن الاستفادة والاسترشاد على المستوى الفردي، إنما أقصد بالضبط الاستفادة والاسترشاد المؤسسي، وصوغ نظريات للتغيير والإصلاح والتجديد بناء على تلك الاجتهادات النظرية والمعرفية.

ولهذا "العزوف" أسباب، منها:
السبب الأول: يتعلق بتلك الصورة النمطية التي استقرت في أذهان الكثيرين من كون المسيري مرجعا في الصهيونية. وأنه بعيد عن الحقل المعرفي الإسلامي.

ونعتقد أن المسيري قد تَشكّل لديه "منهج معرفي" محدد المعالم والسمات، وعن طريقه يقارب مجموعة من الظواهر ويقدم قراءته الخاصة انطلاقا من ذلك المنهج.

السبب الثاني: يتمثل في التحولات العميقة التي عرفها مسار المسيري الفكري، والتي توجت باعتماد الإسلام أرضيةً للاجتهاد والانطلاقة الحضارية. ومن منطلق هذه التحولات الجذرية، استقر في البنية الذهنية لـ"العقل الإسلامي التقليدي" أن كل ما له علاقة بالاجتهاد هو حكرٌ على طائفة من الناس دون غيرهم، وهي طائفة الفقهاء (بالتعريف الضيق لهذه الكلمة).

بهذا أصبح الاجتهاد في النص الإسلامي من أجل توليد النماذج والرؤى و"النظريات" حكرا على تلك الطائفة.


3- التقصير في الاسترشاد بنقده للحداثة والحضارة الغربية
للحضارة والحداثة الغربية، بطبعتها المعاصرة، بريق خاص (ذات جاذبية عالية بتعبير المسيري). واستطاعت أن تخترق العالم بفضل اشتغالها على خطين، وهما: الخط الفلسفي الفكري، والخط القيمي الثقافي. وبفضل اعتمادها على ثُلاثية الإغراق والإغراء والإغواء.

فبإغراق السوق بالمنتوجات الثقافية، التي تبدو في ظاهرها بريئة، يحدث الإغراء الذي هو "شعور نفسي" أكثر منه "سلوك عملي" (أو يمكن تسميته بـ"حديث النفس")، وبعد الإغراء يحصل الإغواء الذي هو "سلوك عملي".

وبالتالي فإن أي نقد بسيط لهذه الحداثة لا يزيدها إلا قوة ومصداقية. ومن هنا يتبين مدى حاجة العقل الإسلامي للنقد الذي يوجهه المسيري للحداثة الغربية، وهو الذي درس هذه الحداثة من الداخل و"حاكمها" إلى نصوصها المرجعية، وليس إلى نصوص أخرى مفارقة لتلك النصوص، وكشف عن الفجوات المعرفية التي تعتري بناء "الحداثة الغربية"، ناهيك عن معايشته المباشرة لتجليات تلك الحداثة.

من ناحية أخرى، وأمام جاذبية "الحداثة الغربية"، يلجأ الخطاب الإسلامي المعاصر إلى "أسلوب الدفاع"، فعندما يقال له إن الحداثة الغربية قد حققت الحرية للإنسان الغربي، أو عندما يروى له أن النظم السياسية الغربية -النظام السياسي الأميركي على وجه الخصوص- هي نظم، فعلا، ديمقراطية. إلى غير ذلك من القضايا التي تتكئ عليها الحداثة الغربية من أجل اكتساب المشروعية والمصداقية، يسلك هذا الخطاب مسلكين على الأقل، وهما:

المسلك المستبطَن: بمعنى أن العقل الإسلامي، عندما يواجه بتجليات الحداثة الغربية، يصوغ خطابا يستبطن فيه التسليم بكون المجتمع الغربي بالفعل مجتمعا حرا. وبكون النظم السياسية الغربية حقيقة نظما ديمقراطية. فمثل هذه الأمور، وفق هذا المسلك، بمثابة مسلمات لا تقبل النقاش.

ألا يحق لنا أن نتحدث هنا عن حصول "إغواء في المقاربة" بعد أن حصل "إغراء على مستوى المقولات" نتيجة "إغراق السوق" بتلك المقولات سواء كان إغراقا رمزيا أم إغراقا أدبيا أم إغراقا ماديا؟

الثاني: بعد التسليم بكون تلك المقولات بمثابة "مسلمات"، لم يبق أمام العقل الإسلامي إلا أن ينتج خطابا يُبين فيه أن منظومتنا الإسلامية لا تعدم أفكارا أقرب إلى الديمقراطية، وهناك من يؤصل لها على المستوى الديني، وبأن هذه المنظومة تملك تراثا ثريا بخصوص حقوق الإنسان. وهذا مسلك يعزز الحداثة ولا ينفذ إلى عمقها من أجل نقدها، ولم لا نقضها!

أما المسيري فلم يسلك هذين المسلكين. لم يسلك المسلك الأول الذي يُسلم فيه بصدق تلك المقولات (الحرية وديمقراطية النظم في مثالنا)، بل تجرأ على نقدهما، في الوقت الذي تعتبر فيه هذه المقولات طابوهات لا يمكن الاقتراب من مناقشتها أو الحوار بخصوصها، وبالأحرى نقضها.

ولم يسلك المسلك الثاني الدفاعي، بل بَعْدَ نقده للأسس الفلسفية التي تستند إليها تلك المقولات (والمنتوجات الثقافية في مناسبات أخرى) قام ببناء تصور لما يمكن أن يكون عليه النموذج الذي بإمكانه أن يعيد للإنسان إنسانيته وكرامته وللحياة معناها ووجهتها، بمعنى قام المسيري بتأسيس حداثة بديلة عن تلك الحداثة السراب.

من ناحية أخرى، إن توصيف المسيري مثلا لـ"ماهية وطبيعة الحضارة الغربية" مغاير لتوصيف جزء كبير ومهم من الخطاب الإسلامي المعاصر، والذي يعتقد أن الغرب غرب مسيحي، وبأن المعركة هي بين الإسلام والمسيحية، مما يفقد الخطاب الإسلامي القدرة على التأثير في الغرب نفسه.

لكن بـ"التوصيف المسيري" الذي يرى أن الغرب لا دين له، وأنه لا يفهم إلا ما تقع عليه حواسه ولا يعرف إلا مصالحه. بهذا التوصيف نحن قادرون على كسب الآخرين -في الغرب وفي غيره- ليس إلى صف المشروع العربي الإسلامي، إنما إلى صف الرؤية التي يعتقد المسيري أنها هي المستهدفة من جراء سيادة هذه "الطبعة والنسخة السيئة" من الحضارة الغربية.

وهي رؤية تلامس تلك النفخة من روح الله تعالى، واللصيقة بالإنسان -مطلقِ الإنسان- في الغرب كما في الشرق، وفي الشمال كما في الجنوب. إن المسيري بهذا التوصيف يدعونا -ضمنا- إلى كسب المجتمعات الغربية إلى صف تلك الرؤية، أو لنقل كسبها من أجل الوعي بأهمية تلك "النفخة" وبخطورة المساس بها.
ـــــــــــ
كاتب وباحث مغربي


الجزيرة-المعرفة