رمضان.. والغيب
أول صفات المتقين في كتاب الله في مفتتح سورة البقرة أنهم يؤمنون بالغيب.. وآخر رمضان ـ شهر القرآن ـ عتق من النار، وبين قبول الإيمان بالغيب.. والعتق من النار يوم القيامة.. مسيرة من «حياة العبادة» لله رب العالمين بمعناها الشامل، قبل الميلاد في هذا العالم كانت «كن».. الخلق الأول.. وكان سؤال.. «ألست بربكم؟».. وجواب « قالوا بلي».. مروراً بعرض الأمانة وتحمل الإنسان لها.. إلي نزوح الروح لتسكن في صورة الجسد وتحيا في هذا العالم كدار ابتلاء.. وتؤدي الخلافة في الأرض: من كدح.. وسير.. وقوامة وشهادة.. وإقامة الصلاة وإنفاق من رزق الله، واتباع ما أنزل الله علي رسوله «وإيمان بما أنزل من قبله» من شعائر وشرائع، وجهاد في ترويض النفس وسعي لاتباع الهدي، وتجدد لليقين بالآخرة علماً وحقاً.. إلي أن يحمل الموت ثم الحشر تلك النفس إلي: عين اليقين.
.. «وقل اعملوا».
العتق من النار هو جزاء حياة يختزلها شهر رمضان في ومضات، وتختزنها لياليه في نفحات، ذروتها ليلة هي خير من ألف شهر ـ حساب عمر الإنسان لو مد الله له فيه فجاوز الثمانين ـ حياة تقوم لو شاء الإنسان علي اختيار حر للإيمان بالله الذي لا تدركه الأبصار.. فهو غيب، وملائكته الذين هم.. غيب، وكتبه التي هي من مصدر الغيب، ورسله الذين نصدقهم فيما يخبرون عنه من غيب، واليوم الآخر الذي هو غيب، والقدر الذي هو غيب.
حكمة التشريع قد يدركها العقل حين يجتهد، لكن تبقي فيها أبعاد من التعبد.. بالغيب، وهنا التسليم بحدود العقل إدراك لمساحات الغيب.. والغيب: غيب الزمان: أزل وأبد، وغيب المكان: آن وزمن، وغيب الوجود: ما غاب من المُلك وما غاب من الملكوت، وغيب العوالم والأكوان، بل ما غاب عنا منا في أعماق النفس من فطرة التوحيد ونزعة الطين.. نعيد اكتشافه ونجلو أدرانه.. بالعبادة.
عنصر الغيب في حياة المؤمن حي وحاضر، وله في تفاصيلها تجليات، وهو يرسم حدود العقل لكنه يفتح له آفاق الحرية، ولأن الله وحده الأعلم.. فعلي العقل أن يسعي ويجتهد، ولأن الله وحده هو الأعلي.. فعلي البدن أن يسعي وينطلق، ولأن الله وحده هو الأحكم.. فعلي البشر أن يتعارفوا ويتعاونوا ويتدافعوا، ويختاروا.. ويتحملوا مسئولية ذلك كله، ويوم القيامة ينبئهم بما كانوا يعملون.. ويفصل بينهم.
لكن الإنسان.. ينسي، وقد يهتز ميزان الغيب في وعيه.. ، فيجهل، ويغفل، وييأس، ويطغي، لذا يحتاج لتذكرة.. ورمضان من محطات التذكرة التي تمتد شهرا كل عام، والحج مثله ـ ولو مرة في العمر، وهو فرصة لشحذ الذاكرة الإيمانية للإنسان، وترويض للجسد لتشرق الروح، وتربية الفرد لتنمو الجماعة، وهو موسم للربانية لتسمو البشرية، وكسر لعادات الأوقات لنسترد الوعي بالأزمنة الممتدة في ذواتنا وفي مساراتنا وفي مآلاتنا.. نحو الرُجعي.
حين يقول الله تعالي «الصوم لي.. وأنا أجزي به» فإن معني معية الله ومراقبته وتقواه يصبغ تلك العبادة، فيوقظ الوعي بحضور الغيب في الشهود، وشهادة الحضور بالإيمان بالغيب، وحين يحث الله علي العمل فيه ويجزل العطاء سبعين ضعفاً ـ ولديه مزيد ـ فلكي لا يظن ابن آدم أن «.. لي.. » رهبانية أو انقطاع.. بل هو له إخلاصاً في العمل ومراقبة لله في السعي، وحثاً علي الإحسان.
فالله عز وجل يلفتنا للعلاقة الوثيقة بين رحمته.. وسعينا بالمعروف، ورحمتنا بالخلائق، والعلاقة بين مغفرته وعفونا عن عباده، والعلاقة بين تقواه بالغيب في السر والعلن.. ووفائه لنا ـ يوم القيامة ـ بذلك: ديننا الحق.. بالعتق من النار.
وكمال العبودية لله بالتوحيد.. عتق من أسر ما عداه، وجائزته: العتق من النار.. ومن آمن بالغيب منحه الله مفاتيح الشهادة وسخر له أسباب المادة ومكنه من الأسرار الكامنة بين الكاف والنون.. وآتاه الحكمة، وعلمه، وفهمه، ورزقه نوراً يمشي به.. وبصيرة.. ففاز بالدنيا.. والآخرة.
وقد قص الله في الكتاب القصص علي رسوله من أنباء الغيب.. ليثبت به الفؤاد، ليدرك سنن التاريخ، وحدثنا عن عوالم أخري هي من الغيب الخفي عنا كي لا نطغي، ونعلم أننا لسنا وحدنا في هذا الكون.
وخشية الله بالغيب هي التي تورث العبد رحمته ومغفرته، وتورث البشرية عمرانها.. والحياة الطيبة.
ومن آيات الله وفيض منته أنه يمنح العبد مفاتيح التعامل مع الغيب «لا مفاتيح الغيب فتلك لا يعلمها إلا هو.. ولا يطلع علي غيبه أحد»، ومن مفاتيح التعامل مع الغيب: الدعاء، وفي الحديث: «لا يرد القضاء.. إلا الدعاء»، فما أكرم الغفور الرحيم في عطائه، وما أقربه ممن دعاه، وما ألطفه بعباده.
الحمد لله رب العالمين.